Chapter 5: ظلال تطارد النهار

زهرة اللامرئي 500 words
لم يغمض جفن مروان تلك الليلة. جلس على مكتبه، الوردة الذابلة إلى جانبه، والضوء الذي تركته يد ليان ما يزال يلمع في ذاكرته أكثر مما يلمع على جلده. حاول أن يقنع نفسه أن ما رآه لم يكن سوى هلوسة، لكنه لم يستطع. هناك حقيقة جديدة تفرض نفسها، حقيقة لا ينكرها سوى من يخاف مواجهتها. مع أول خيط للفجر، نزل إلى الشارع. المدينة بدت طبيعية، الناس يتجهون إلى أعمالهم، الأطفال يركضون بحقائبهم المدرسية. لكن بالنسبة لمروان، كل شيء صار مشوبًا بظلٍ لا يراه سواه. كان يشعر أن العيون تلاحقه، لا عيون البشر، بل نظرات باردة خفية، كأن شيئًا من ذلك البيت تبعه إلى النهار. في المقهى، جلست سلمى كعادتها مع دفترها. حين رأت مروان، لوّحت بيدها: — صباح الخير! تبدو... متعبًا أكثر من العادة. جلس أمامها، وضع يديه على الطاولة متشابكتين. — سلمى، أحتاج أن أخبرك بشيء. — ثانية؟ لا تقل إنك عدت إلى البيت. — فعلت. شهقت، أغلقَت دفترها ومالت نحوه: — هل جننت؟ لقد حذرتك! حكى لها ما حدث — اللقاء بليان، الظل الذي ناداها، وكيف خرجا معًا. لم تقاطعه، لكن وجهها ازداد قلقًا مع كل كلمة. وعندما انتهى، قالت ببطء: — هذا لم يعد مجرد إلهام لرواية. أنت تتورط في شيء أكبر من قدرتك. — أعلم. لكن لا أستطيع أن أتراجع الآن. هناك شيء يجذبني إليها... شيء لا يُفسَّر. أطرقت سلمى رأسها، ثم قالت بصوتٍ منخفض: — سأقف بجانبك، لكن بشرط: لا تذهب وحدك مرة أخرى. رفع عينيه إليها، ممتنًا. لكنه قبل أن يشكرها، لمح في زجاج المقهى انعكاسًا غريبًا. خلفه مباشرة، على الرصيف، كان هناك ظل أطول من أي إنسان، يتحرك رغم ثبات الناس. التفت بسرعة، فلم يجد شيئًا. مع الظهيرة، قصد الشيخ ناصر. وجده جالسًا في نفس المكان أمام دكان مغلق، مسبحته تدور بين أصابعه ببطء. — عدتُ للبيت. — اعترف مروان. رفع الشيخ بصره، في عينيه خليط من الحزن واليقين. — كنت أعلم أنك ستفعل. الفضول أقوى من النصائح. — من هم الذين يلاحقونني؟ رأيت ظلًا حتى في النهار. — لأنك صرت على قائمتهم. — قال الشيخ. — حين تعبر الحدّ، تصبح مطاردًا. — أي حدّ؟ أي عالم تتحدث عنه؟ أغمض ناصر عينيه: — عالمنا ليس وحده هنا. هناك عوالم أخرى، متداخلة معنا لكننا لا نراها. البيت الذي دخلته ليس مجرد أطلال، بل بوابة. ومن خلفها... قوانين لا تُسامح. جلس مروان مذهولًا. أحس كأن الكلمات تغلق عليه الدائرة التي لم يفهمها. — إذن ليان... — ليست بشرية و انت تعلم ذلك، — قاطعه الشيخ. — وهي تعرف أن اقترابها منك خطيئة في عالمها. ساد صمت طويل. ناصر استأنف كلامه بصوتٍ أشبه بالتحذير الأخير: — إن استمررت، ستُسحب أكثر فأكثر. حتى قد لا تعود إنسانًا كاملًا. عند الغروب، كان مروان عائدًا إلى شقته. كل خطوة كانت أثقل من سابقتها. وعندما وصل إلى بابه، لاحظ شيئًا على العتبة: تراب أسود ناعم، كرماد مبعثر على شكل دوائر صغيرة. انحنى ليلمسه، فإذا بالهواء من حوله يبرد فجأة، حتى شعر أن أنفاسه تتجمد. رفع رأسه فرأى، للحظة عابرة، ظلًا بشريًا يقف في نهاية الممر، بلا ملامح، يحدق فيه. اختفى الظل، لكن قلبه ظل يدق بعنف. دخل شقته وأغلق الباب خلفه، يدرك أن التحذيرات لم تعد نظرية. الظل صار يتبعه بالفعل.

Comments (0)

Login to leave a comment

No comments yet. Be the first to share your thoughts!