Chapter 16: المرآة الأولى

زهرة اللامرئي 506 words
قادَتهم ليان عبر أزقة ضيقة لم يكن مروان يعرف أنها موجودة في مدينته. كل خطوة كان الهواء يزداد برودة، والظلال تلتف حولهم كأنها ترشدهم. توقفت عند باب حديدي صدئ في جدار متهدم. قالت وهي تلمس الباب براحتها: — هذا المدخل... لا يراه إلا من استُدعِي إلى الاختبار. تردّد سلمى: — وهل نحن مستعدون؟ أجابتها ليان بنبرة حاسمة: — لا أحد يكون مستعدًا تمامًا، لكن لا طريق آخر. دفعت الباب، فصدر صرير طويل، وانفتح على ممرّ من ضوءٍ فضيّ متماوج. عبروا جميعًا، ليجدوا أنفسهم في مكان لا يشبه أي شيء عرفوه: فضاء لا جدران له ولا سقف، أرضه مرآة صافية تعكس خطواتهم، وسماءه بحر من السكون. اقتربت ليان من مركز الدائرة، وقالت: — "مرآة السكون" تكشف ما تخفيه قلوبكم. لا أحد يمكنه الكذب هنا. سترون مخاوفكم، وستواجهونها وحدكم. إن نجحتم... ستخرجون أقوى. وإن فشلتم... قد تبقون هنا، أسرى انعكاساتكم. سكتت، ثم أشارت إلى مروان: — أنت أولًا. وقف مروان أمام سطحٍ من المرآة ارتفع فجأة أمامه. رأى صورته... ثم بدأت ملامحه تتغير. عينيه صارتا فارغتين، يده تمسك دفترًا فارغًا لا يُكتب فيه شيء. ظهر خلفه جمعٌ من الوجوه — سلمى، الشيخ ناصر، ليان — لكنهم كانوا يشيحون عنه، يختفون واحدًا تلو الآخر. سمع صوته الداخلي يهمس: — أنت مجرد وهم... لن تترك أثرًا. لا أحد سيذكرك. ارتعش، لكنه قبض على الدفتر بشدة، وقال بصوت مرتجف: — حتى إن اختفيت، سأكتب. حتى إن لم يقرأني أحد... سأكتب. عندها امتلأ الدفتر بكلمات مضيئة، والمرآة تكسرت إلى شظايا ضوء تلاشت في الهواء. حين عاد إلى الدائرة، كان يتنفس بعمق، عيناه تلمعان بصلابة جديدة. سلمى نظرت إليه بقلق، لكن ليان ابتسمت ابتسامة صغيرة. — نجحت. قال مروان: — لم يكن سهلًا... لكنني عرفت شيئًا. الخوف من النسيان أخطر من أي شيء آخر. ثم أشارت ليان إلى سلمى: — الآن دورك. اقتربت سلمى ببطء، وقلبها يخفق كطبول. أمامها ارتفعت المرآة، لكنها لم تعكس سوى فراغٍ أسود. من ذلك الفراغ خرجت نسخ منها، كل نسخة تحمل دفترًا ممزقًا، وتضحك بسخرية. — لن تكوني كاتبة أبدًا. كلماتك تافهة. حتى عائلتك الحقيقيّة اختارت تجاهل كلماتك. سلمى تراجعت خطوة، دموعها تلمع، لكنها رفعت صوتها: — ربما لن أصبح كاتبة عظيمة... لكن كلماتي حقيقية. أنا لست ظلًا... ولن أسمح لكم بتمزيقي. مزّقت إحدى النسخ المزيفة دفاترها، فاحترقت جميع الصور دفعة واحدة، وتلاشت المرآة. سقطت سلمى على ركبتيها، تبكي وتضحك في آن. ساعدها مروان على النهوض، وقال لها: — كلماتك أنقذتك. لا تنسي ذلك. الشيخ ناصر تقدّم دون أن يُطلب منه. وضع مسبحته في يده، ونظر في المرآة التي ارتفعت أمامه. انعكست صورة جسده المسنّ، لكن خلفه ظهر شاب يافع يشبهه في أيامه الأولى. الشاب نظر إليه باحتقار: — قضيت عمرك تنتظر الإشارات... ولم تنقذ أحدًا. صرت مجرد رجل يبيع الأعشاب. انحنى الشيخ، الدموع تملأ عينيه. لكنه رفع رأسه ببطء، وقال: — ربما تأخرت... لكن الإيمان لا يُقاس بالزمن. الإيمان هو أن تقف عندما لا يبقى فيك قوة. امتد الضوء من المسبحة، وابتلع صورة الشاب، تاركًا السطح صافيًا. حين اجتمعوا مجددًا، كان الثلاثة يبدون منهكين، لكن وجوههم امتلأت بصلابة جديدة. ليان نظرت إليهم، عيناها تلمعان بمزيج من الفخر والقلق. — اجتزتم الخطوة الأولى... لكن تذكّروا: عاصم لا يُقاتَل بالمرآة، بل في العالم الحقيقي. وما رأيتموه اليوم... مجرد بداية.

Comments (0)

Login to leave a comment

No comments yet. Be the first to share your thoughts!