Chapter 4: لقاء في العتمة
زهرة اللامرئي
دينا عزيز
9/17/2025
517 words
لم يكن مروان بحاجة إلى من يقنعه بالعودة. رغم كل التحذيرات، كان يشعر أن حياته قد انقسمت إلى ما قبل البيت وما بعده. تلك الوردة، ذلك الصوت، تلك العينان الخضراوان التي لم تبرح ذاكرته... كلها دفعت به إلى باب البيت من جديد.
غابت الشمس حين وصل. السماء صارت مزيجًا من الأرجواني والرمادي، والريح تعصف بورقٍ جافّ يركض في الأزقة. أمام الباب الخشبي المهترئ، توقّف لحظة، أصغى إلى صمتٍ عميق كأن البيت ينتظر عودته.
دفع الباب ببطء. لم يئنّ كما المرة الأولى. بدا كأن المكان يرحب به الآن. خطواته على الأرضية الخشبية أصدرت صدى يتردد طويلاً. في الممر المظلم، لمح نورًا خافتًا يتلألأ من غرفة جانبية.
اقترب، قلبه يدق بقوة. وحين دخل، وجدها.
كانت ليان واقفة في منتصف الغرفة، شعرها يتماوج مع تيارٍ غير موجود، عيناها تضيئان كنجمتين في الظلمة. ثوبها الأبيض بدا أقل واقعية من المرة السابقة، أقرب إلى خيط ضوء أكثر منه قماشًا.
— عدتَ، — قالت بصوتٍ يمزج بين الترحيب واللوم.
— لم أستطع البقاء بعيدًا. — أجاب بصدق.
ابتسمت ابتسامة صغيرة، لكنها سرعان ما اختفت:
— لم يكن يجب أن تعود. كلما اقتربتَ، كلما صار فراقك أصعب... وخطرًا أكبر.
— خطرًا على من؟ عليّ أم عليك؟
— علينا معًا. — قالتها وهي تخفض نظرها.
اقترب خطوة. كان يريد أن يسأل مئات الأسئلة: من أنتِ حقًا؟ ما هذا المكان؟ من الصوت الذي هددني في الليل؟ لكنه لم يقل شيئًا. اكتفى بالنظر إليها، كأن حضوره أمامها أصدق من أي سؤال.
رفعت يدها بخفة، كأنها ستلمسه، لكنها توقفت في الهواء قبل أن تصل إليه. بدت مترددة، ممزقة بين رغبة جامحة وقيدٍ خفي يشدها للوراء.
— اسمع يا مروان. — قالت بجدية. — عالمي ليس كعالمك. هناك قوانين صارمة. الاقتراب بيننا محرّم. وإن عُرف بأمرنا... ستكون أنت أول من يدفع الثمن.
— لكنك أنقذتني من الظل في الحلم. لماذا؟
— لأنني... — ترددت، ثم أغلقت عينيها لحظة قبل أن تفتحها: — لأنني لم أستطع أن أتركك وحدك.
خيم الصمت. الكلمات المعلقة في الهواء أثقل من أن تُكمل بجملة أخرى.
ثم فجأة، ارتجّ البيت. ارتعشت الجدران كأن زلزالًا صغيرًا أصاب المكان. سمع مروان هديرًا مألوفًا، الصوت ذاته الذي هدد في الحلم، يملأ الغرفة من كل الجهات.
— ليان... — صرخ الصوت، أجشّ وعميق. — هل تنكثين عهدك؟!
تجمدت ليان. ملامحها تلوّنت بالخوف. أمسكت يد مروان هذه المرة فعلًا، أصابعها باردة كالجليد لكنها مشدودة بقوة:
— اركض!
لم يفهم كيف يمكنه الركض في بيتٍ مغلق، لكن جسده أطاعها. سحبتْه عبر الممر، والظلال تتساقط من الجدران كدخانٍ أسود يحاول أن يسد الطريق. كان يسمع صرخات مكتومة، كأن البيت نفسه يعترض خروجهما.
فتح الباب الأمامي أخيرًا، واندفعا إلى الخارج. الهواء الليلي كان قاسيًا لكنه منعش، كمن يعيد له الحياة. توقف مروان ليلتقط أنفاسه، لكن ليان تركت يده فجأة، تراجعت إلى الظلال بجانب البيت.
— لماذا تهربين؟ — صاح.
— لأنني لا أستطيع أن أبقى. لا بعد أن عرفوا.
— من "هم"؟
— ستعرف... قريبًا جدًا.
وبعدها، اختفت. لم يمشِ، لم يركض، بل تلاشت كما يتلاشى الدخان في مهبّ الريح. تركت مروان واقفًا وحده أمام البيت، أنفاسه متقطعة وقلبه يكاد يخرج من صدره.
تلفّت حوله. الشارع كان خاليًا تمامًا. كل شيء ساكن. فقط صوته هو الذي يملأ المكان. وعندما نظر إلى يده، وجد بقايا ضوء خافت يذوب بين أصابعه، كأثرٍ باقٍ من لمسها.
Advertisement
No comments yet. Be the first to share your thoughts!