Chapter 1: البيت المهجور

زهرة اللامرئي 1053 words
كان الصباح ينسحب ببطء عبر أفق المدينة كما لو أنّه يراجع تحفته قبل أن يعرضها على العالم. خرج مروان من شقته الصغيرة محمّلاً بدفترٍ صدئ الأركان، وقلمٍ لا يزال يراوده أملٌ أن يجعل منه كلماتٍ تُدركه. على محيّاه سكينةٌ لا تخلو من شوق؛ تلك السكينة التي يختبئ وراءها الكاتب عندما يخشى الاعتراف بأنه يبحث عن شيءٍ أكبر من قصص الشوارع وروتين الصباح. البيت المهجور كان يقبع على هامش البلدة كجسدٍ قديم نُسي عن الروتين. واجهته المتشققة تحكي عن سنوات طويلة من صمت؛ شبابيكٍ مكسورة ترمي بظلالٍ خاطفة، بابٍ نصف مغلقٍ يئنّ عند أدنى هبوب ريح، وشرفةٍ مائلة يغطيها عنقود من حبال العنكبوت التي تشعّ في الضوء كخرزٍ باهت. شيئٌ ما في تآكله بدا بالنسبة لمروان عتبةً لا تقاوم — مكانٌ قد تُعطيه أفكارًا لا تُشترى في دفاترٍ جديدة. عند مفترق الطريق، نزل الشيخ ناصر ببطءٍ من مقعده الخشبي أمام المقهي الصغير، عيونه الضيقة تقرأ خطواته كما لو أنّها تقرأ توقيع قدرٍ قديم. ابتسم الشيخ لنوعٍ من المراوحة بين الشفقة والقلق؛ لم يكن يجهل شبابًا يحبّ أن يصرّ على أن يرى ما وراء الظلال. — تبتغِي الإلهام؟ — سأل ناصر بصوتٍ خبر كل شيء. نظر مروان إليه ورفع دفتره كما لو كان علامة تعريفٍ، حاول أن يبوح بما في داخله من لهفة دون أن يبدو ساذجًا: — نعم... أبحث عن شيءٍ يخرجني من فراغ الكتابة. شيءٌ حقيقي، — قال، ثم أضاف بسرعةٍ كمن يخشى أن يتراجع: — لا أؤذيه أحدًا. تراجع ناصر خطوةً واحدة، كما لو أنّ في كلامه نذيرًا أنّ الأمر ليس بسيطًا. كانت يده تهتز قليلاً حين أمسك بعصاه: — لستُ في جعبة الحكمة. لكن البيت... — أشار بوجهه إلى السطر الأخير من الأزقة — له أشياء لا تُكتب. لا تدخل وحدك يا بني. ليس كل ما يُهمس في الظلّ يحتاج أن يُستمع إليه. أحسّ مروان بأنّ قوّةً داخليةً توقظ في صدره جزءًا لا يقهر من الفضول. لم يكن الأمر تجاهًا لكلام ناصر أو تجاه نصائحه؛ بل كان احتياجًا أقوى: أن يرى إن كان صدى حكاياته قادرًا على أن يقف أمام عالمٍ يراه الآخرون مجرد غبار. داس بعنفٍ على ركبته، وصافح الشيخ مصافحةً سريعة، ثم اتجه نحو البيت كأنّه يدخل مسرحًا صغيرًا. الهواء عند المدخل كان بارداً على نحوٍ مفاجئ، أذنه مدوّية بصدى قدمه على الدرج الخشبي. رائحة الرطوبة والمسامير القديمة وطبقاتٍ من الزمن مختلطةً مع عبقٍ خفيفٍ لا علاقة له بالزمن: رائحة وردٍ قديم أماتها الغبار، أو ربما رائحة شيءٍ آخر لم يتمكن ممن لا يسكن المكان من تعريفه. أشعة الشمس التي سلّطت فوق جناح الحجرة طوّت الغبار كستارةٍ رقيقة، فأمكنه أن يرى أثاثًا نصف مدمّر، أريكة مسطحة، طاولةٍ عليها مظروف أصفر اللون، وصورةٍ لعائلةٍ ابتسمت فيها الوجوه قبل أن تغادرها الحياة. كان كل شيء محاطًا بهدوءٍ ثقيلٍ يبدو وكأنه يحفظ سرّه برعبٍ خاص. لم تمر دقائق حتى شعر بشيءٍ يشبه الهمس. لم يأتِ من فمٍ أو من صدٍ، بل كان كأن الجدران نفسها تُخرِج حروفًا خفيفة حين تنحني فوق تفاصيلها. حضن مروان قلمه بقوةٍ، كمن يحذر نفسه من الانقياد إلى خرافة، وقال بصوتٍ أجوف: — ربما الريح فقط... أو عيناي تعدّان ما لا يوجد. ثم، من زاويةٍ معتمةٍ عند درج الغرفة الثانية، جاءت همسةٌ أو همساتٌ أخف من أن تقاس بكلمة. كانت الكلمة كأنها تُسحب من نبرة صوت صبيٍّ يصغي إلى بيتٍ في احتجاج: — اسمع... جمّد مروان جسده. توقفت دقّات قلبه عن مجرد هربٍ من الخطر لتصير استماعًا وتحسسًا. كان الهمس بلا هوية، لكنه بدا وكأنه يدعوه إلى أسفل الدرج، حيث الغرف الأكثر ظلمة. دفتره كان في جيبه، لكنه بدت له الآن أماكن الحبر فيها قليلة أمام كمية ما يريد أن يعرفه. تقدم بخطواتٍ حذرة. الدرج انحرف بصوتٍ مكتوم تحت وزن قدميه كأثرٍ من صرير يستحضر بعثة قديمة. وصل إلى ما يشبه الممر؛ كان الجدار ملطخًا بملصقاتٍ ممزقة وكتاباتٍ طفيفة على الطلاء، كلماتٌ لم يستطع قراءتها إلا بصعوبة: "لا تعبر"، "حين تنهار الحدود..." — عباراتٌ ناقصة تمنح الخيال مساحةً يصنع منها قدره. هنا، عند مدخل غرفةٍ صغيرة، لمحت عيناه حركةً واضحة: ثوبٌ فاتحٌ يمرّ كخيطٍ من الهواء عبر الظلام، دون أن يكون هناك من يحرّكه. الهواء لامس شعره، وكأنّ مكانًا ما في الداخل قد همس باسمه دون أن ينطق به أحد. الأغلبية كانت تقول إنّ الدماغ البشري يملأ الفراغ دائمًا بما يتوقعه، لكن شيئًا في عمق مروان رفض أن ينسب كل شيءٍ إلى نزوة تصوّرية. التفت ليخرج من الغرفة لتلافي أي مجازفة، فبدت له ظلال في النافذة الأخرى، شبيهةً بيدٍ صغيرة سريعًا ما اختفت. لم يكن خيالًا — حسّه الأولي أخبره بذلك — لأن تلك الظلال كانت تُناصر في المسافة بينه وبين النور، لا في داخل عينه فقط. صمت البيت لم يعد شعارًا؛ صار رسالةً. لم تكن رسالة تهديد صاخبة، بل أمرٌ رقيق: "كن هنا". وحين سعى إلى مغادرة المكان، شعر بعينه تُلتقط من طرف نافذةٍ قديمة، وكأنّ هناك من يراقبه من الخارج ولكن ليس من بشرٍ معروفين. لمحت أمامه لمحةٌ جسدية قصيرة — ظلٌ صغير متحرك — لم يتجاوز لحظةً واحدة قبل أن يعود العالم طبيعته، لكنه ترك في صدره ارتعاشًا جديدًا. وقبل أن يفتح الباب ويعود إلى ضوء النهار، سمع همسةً أخيرة — أقوى قليلًا هذه المرة، تحمل نبرةً أقرب إلى سؤالٍ من دعوة: — لمَن تكتب؟ كانت الكلمات كأنّها اخترقت رئتيه وأدخلت قلمَه في يدٍ لم تكن له، ثم توقفت كما لو أنّ أحدًا قد خاطب نفسه من داخل جدران البيوت القديمة ليخجل من أن يطلب جوابًا. خرج مروان من البيت بسرعةٍ لكن خطوةً منه، وأدرك أنه لم يعد قادراً على الاكتفاء بالقول إنّ ما رآه مجرد وهم. دفتره لم يعد كافياً فقط. شيءٌ ما داخل البيت قد استيقظ، وربما استيقظ معه شيءٌ أعمق داخل نفسه. على الرصيف، وجد ناصر يراقبه بعينٍ لا تفرّق بين الخطر والندم. لم يتكلما طويلاً. قال الشيخ وكأنما يتلو نصيحة ونعوة معًا: — إنّه لا يهم ما ستكتب، يا بني. المهم أن تعرف أن بعض البيوت تملك ذاكرةً لا تُمحى. احمل قلمك، لكن احذر أن تسمح لذاك البيت أن يكتبك. مروان رفع دفتره إلى صدره كأنه يقبّل شيئًا مقدسًا، ثم مشى مبتعدًا، وخلفه ظل البيت يمدّ فروعه نحو الطريق كأنّه يريد أن يعيده. لكنه حين التفت للمرة الأخيرة قبل أن يدخل في زحمة المدينة، بدا له خلال بريقٍ قصير من الضوء في إحدى نوافذ البيت وكأنما شكلًا من أشباه الوجود تطاوَل يشير إليه، لا بوداعٍ ولا بتهديد، بل بدعوةٍ لمغامرةٍ لا يعلم أين نهايتها. خمس دقائق بعد عودته، في سريره، لم يستطع النوم. دفتره كان مفتوحًا على صفحةٍ بيضاء، والقلم بين أصابعه يرتجف بقليلٍ كمن يهمّ بأن يكتب كلمةٍ قد تغيّر صفحاته كلها. لكنه، قبل أن يخط أي حرف، أحسّ بصوتٍ في رأسه ليس كصوت نفسه — همسةٌ طفولة — تقول كأنه يذكّره بعهدٍ قديم: — اكتب... لكن اختَر كلماتك جيدًا.
Previous

Comments (0)

Login to leave a comment

No comments yet. Be the first to share your thoughts!