Chapter 1: العاصفة

مزرعة روغان 1516 words
كان يومًا غريبًا، غابت فيه الشمس فجأة، كأن النهار قد ظلّ معلقًا بين الحياة والموت، وانقسمت السماء إلى نصفين: نصف يحتضر، ونصف لم يولد بعد. الرياح الخفيفة حملت رائحة شاذة، مزيج مطمئن كالعطر القديم، لكنه في العمق خادع... كأنها يد تمد نفسها عليك لتدفئك، بينما تُخفي خنجرًا في الظلام. في قلب هذا العالم، كانت المزرعة: حصن وحيد وسط الغابة السوداء، تأوي بين أركانها مجتمعًا صغيرًا من الحيوانات المتآلفة بقدر خوفها… تتجمّع حول بعضها لا حبًا خالصًا فقط، بل لأن الوحدة خارج الأسوار تعني الموت. وفوق هذا السكون الثقيل، كانت بومة عظيمة تحلّق بأقصى ما لديها من سرعة، عيناها الواسعتان تمشطان الأرض وكأنها فقدت سرًّا دفينًا. فجأة تركز بصرها على جسدٍ مستلقٍ عند الحدود، جسد بدا كما لو أنه بين النوم واليقظة. اقتربت، وصاحت بسخرية نافذة: – "روغان… روغان! انهض أيها العجوز، أوَينام الحارس حين يزحف الليل كوحش جائع؟" رفع الكلب رأسه ببطء، عيناه تلمعان كجمرتين كادتا أن تنطفئا. تمطّى قليلًا وهو يزمجر: – "دائمًا تأتي بالضجيج… ألا ترين أن وقت غفوتي قد حان؟ فلتحلقي بعيدًا." قهقهت البومة، ضحكة فارغة كأنها صدى الريح بين الأشجار، ثم انحنت بعينيها أكثر حتى بدت كأنها تنظر عبر روحه وقالت: – "كيف ينام مَن اعتاد أن يشم الخطر قبل أن يولد؟ إن العاصفة لا تُنذر بالريح… بل بالدم." ثم فردت جناحيها واختفت في السواد. حينها اتسعت حدقتا روغان بحدّة، ارتجف صوته الداخلي قبل أن يعلو نباحه القوي مخترقًا الصمت، كالسهم حين يشق صدر الليل. انطلق يعدو نحو باطن المزرعة، يطلق صيحات تحذيرية كأنها أجراس حرب. ارتجف الحصان الضخم، “بران”، حين سمع النداء، فالتفت ليجد أمامه روغان يهرول بعينين يقدح فيهما الرعب والصرامة معًا: – "بران! العاصفة قادمة… ضخمة، أجمِع سائر القطيع فورًا! لا وقت للشرح!" اندفع الاثنان معًا، وجمّعا القطيع في المخزن الخلفي حيث التبن وأدوات الزراعة. الخراف هوت مسرعة، وجدت في عينَي روغان صرامة لم ترها من قبل، فعرفت أن الأمر ليس عبثًا. لحق بها الماعز والبقرة الأم، ومن ورائهم أسراب الأوز والدجاج، يندفعون خلف بعضهم بعضًا وكأنهم يركضون من ظلّ مجهول يطاردهم. الديك صاح بصغاره وجرّهم إلى قفصٍ صغير، بينما ساعدته البقرة في حبس الأرانب على عجَل. توزّع الجميع في أماكنهم لا يعلمون مما يهربون، سوى أن وجه قائدهم لا يشي بالنجاة. وسط الهرج، دوى صوت الثور الهائل وهو يقتحم الباب بصوته المدوي: – "ما هذا ؟ لما كل هذه الجلبه ؟" عمّ المكان صمت ثقيل، كأن كل صوت سُحِب من الهواء، حتى صرير الريح تجمّد للحظة. وحده روغان تحدّث بصوت جهوري لكنه ملطخ بالتحذير: – "عاصفة ضخمة قادمة… وليست كأي عاصفة." اقترب خروف صامت بخطوات حذرة إلى البقرة الأم، عيناه تدوران بلا قرار، ثم همس بصوت بالكاد يُسمَع: – "أين… لينا؟" قبل أن يخرج الصدى من فمه ويقطع حديث الجميع، دوّى برق هائل ارتطم بالسياج. اهتزت الأرض معه كأنها صُفِعَت من السماء، وتناثر الخشب في الهواء شظايا متقدة. هرع الثور والخروف الصامت ومعهما روغان إلى خارج الحظيرة، بينما البقرة الأم أطلقت زفرة رعب وهي تصرخ باختفاء ابنتها. ركضوا وسط صفير الرياح التي ازدادت قسوة، والرائحة الغريبة التي اشتدت حتى غدت خانقة… خليط من حديد صدئ ودماء مطموسة في التراب. انقسم الثلاثة باقتراح من روغان الذي صاح: – "لننقسم! الرياح تمحو الرائحة… إذا عثرتُم عليها اعطوني اشاره، أما أنا فسأنبح عند العثور عليها!" أثناء ركضه، أحس روغان أن رائحته الخاصة – الرائحة التي لطالما أنقذتهم – تتوه وسط دوامات الهواء، لكنه فجأة لمح ظلين يقتربان: بقرة صغيرة تلهث وهي تصرخ: – "عَمّي روغان! العاصفة قادمة!" كان بجانبها القط، يركض بخفة وأعينه تلمع لا بالخوف… بل باللذة الطفولية لأي فوضى قادمة. أطلق روغان نباحه المدوّي إشارةً للثور والخروف، ثم صرخ وهو يسابقهم بخطواته: – "اركضا ولا تتوقفا! لا تنحرفا عن الطريق!" عادوا جميعًا إلى المزرعة بأجساد لاهثة وأنفس محمومة، حيث كان بران الحصان واقفًا يترقب، وصوت وقع حوافره يهتز برجليه كأنه الأرض نفسها. ارتمت لينا في حضن والدها الثور الذي عنفها بعتاب غليظ لخروجها عبر حدود المزرعه، ثم انسابت نحو حضن أمها الدافئ. حينها علا صوت روغان من جديد: – "اغلقوا النوافذ بالأخشاب… حالاً!" أشار بخمسة من العنزات لتثبيت الألواح، وناول القط والديك حبالًا غليظة: – "اصعدا السقف… اسقطوه على الجدران وأوثقوه بالأرض!" ساد صخب منظم، والجميع يعمل كخلية واحدة. صناديق تُسحَب، تبن يُكدّس، حبال تُربط… ورائحة التوتر تختنق في صدورهم. وأخيرًا… سكنت الحركة. احتضنت البقرة الأم ابنتها بين جنبيها، بينما تكوم الخراف حول بعضها، والعنزات ارتجفت كأن أصوات الريح تمزق أمعاءها. الديك والدجاج تمركزوا قرب الحصان، والقط جلس في الظلام مبتسمًا نصف ابتسامة غامضة. أُطفأ نور الشمس، وأغلقت النوافذ بالخشب، فغرق الداخل في سواد خانق. لم يبدده إلا مصباح أحمر صغير يتدلّى من الحائط، يسكب ضوءًا واهيًا على وجوههم المرتجفة. هدوء ثقيل… نظرات متبادلة ترتعش، لكن لا صوت. حتى الريح صارت تئن كأنها تبكي على ما هو مقبل. ثم فجأة… برق خاطف شق السماء، ارتجّ له المكان كله، وأضاء وجوههم للحظة كاملة، كاشفًا عن عيون زائغة مليئة بالفزع. ثم تلاه صوت انفجار الرياح… لتعلن العاصفة قدومها. كان الهواء يصرخ بعنف، كأن السماء تنزف غضبها، مزمجرًا كوحش انفلت من قيدٍ قديم. تقدّمت زوبعة هوجاء تسبق أخواتها نحو سياج المزرعة، فمزقته أشلاء خشبية متناثرة، لتدب الرهبة في قلوب الكائنات المختبئة، قلوب تسمع صرخات الرياح مُترددة من كل زاوية، كأن العاصفة ذات وعي وتلهو بأصواتهم. تدفقت الرياح الرهيبة، تحمل آلاف الأوراق اليابسة كالجنود، تسيرها نحو المزرعة ككتائب منظمة، تصحبها أصوات أشبه بوقع طبول حرب؛ كأنها جيوش الغابة وقد جاءت لهدم هذا المعقل الأخير. ارتبك من في الداخل، عيون تتقاطع برعب، البعض أغمض عينيه يتمنى العبور، كأن النجاة ليست إلا خدعة زائلة. ثم جاء البرق بالنبأ الشؤم، فشق شجرة المزرعة نصفين بضربة واحدة مدوية، كإشارة خفية لتعلن قدوم كل الزوابع الباقية. تصدّعت الألواح، ارتجفت الجدران، وانبعث من ظهر المزرعة ريح محمومة نشرت الفوضى في كل اتجاه. أدرك الحصان أن بابًا خلفيًا قد اقتُلع للتو، فاندفع وهو يلهث، لكن الريح صفعته بقوة قاذفة ساقه أرضًا، فسقط كجبل تهاوى أمام أنوار الرعد. لم يكد أحد يستوعب المشهد حتى اجتاحت الفوضى كل شيء؛ الأدوات تتطاير كسهام طائشة، الأقفاص تنحشر في الهواء، تسحبها الرياح بعناد نحو الخارج، لتنتفض البقرة الأم ومعها العنزات محاولة جمعها وسط إعصار متشابك من الغبار والحطام. اندفع روغان، صوته كالرعد يجلجل وسط العاصفة، وهو يصرخ نحو القط المتشبث بعمود خشبي “سايلس! أين شبكة الصيد؟!” لكن القط لم يجبه، غارقًا وسط صياح الدجاج وريشهم المندفع في وجهه. شقّ روغان طريقه بصعوبة بين العنزات المُعمى أعينها بالغبار حتى انتزع الشبكة، يدفعها نحو البقرة التي تسنده، فجمعا الأقفاص، وأحكما وثاقها بإرادة يائسة، بينما الخراف والمعيز يكوّنون جدارًا مرتعشًا ليحيطها. أما في الخارج، فقد ظهرت المتكبّرة: العاصفة الكبرى. كيان جبار يسير ببطء كمن يعرف قدر سلطته، ثم يغدو طوفانًا يقتلع الأشجار من جذورها ويرشقها في الهواء كسهام قاتلة، حتى ارتطمت الشجيرات بالنوافذ فتحولت إلى حراب خشبية تنغرس في جسد المزرعة المستميت. – “نوا! إلى النوافذ!” صاح روغان. قفز الخروف الصامت في لحظة بطولية يائسـة، متخطياً الخراف والماعز، متجاهلًا الأخشاب التي تضرب رأسه، لكن العاصفة قذفت بإحدى دواماتها في الحائط، فتدمر السلم الخشبي كله من تحته ليسقط معلقًا، تتشبث رجله بهيكل مكسور، جسده متدلي فوق هوة حالكة… والريح تضحك. ابتسمت العاصفة ابتسامة خفية، ثم منحتهم “هديتها”: دويّ جارف شق الأرض… الصومعة المعدنية اقتُلعت من جذورها! انطلقت عبر السماء كرمح هائل، قبل أن تستقر على باب المزرعة الضخم، تدفعه بجنون، تنسف أكوام التبن خلفه إلى شظايا متطايرة، تصارع لتقتحم الداخل. لم يوقفها إلا حبال بالية تتقطع كأنها عروق تمزقت تحت يد الموت. – “إلى الباب أيها الثور!" صاح روغان وهو ينهض من تحت التبن المتناثر. اندفع الثور بجثته العرمرمية، يلحقه الحصان الذي نسي جرح ساقه حين رأى الموت يتدفق من الفتحة. اجتمعا جسدين كجدارين يحاولان صد الصومعة الهائلة التي تناطح الباب، بينما من حولهم صرخت الزوابع الصغيرة بقسوة، تقذفهم بأحجار وأخشاب، كأنها خناجر الريح. الحبال تنقطع واحدًا تلو الآخر… والمصراع يكاد ينفتح… لكن الثور والحصان يحفران طريقهما بأجساد متشققة، فلا تنجح الصومعة في الدخول، ولا يقدران على إغلاقه تمامًا. مأزق معلّق بين الفناء والبقاء. لكن الشر لا يجيء منفردًا. هوت رياح مفاجئة فاقتلعَت إحدى ألواح الطاحونة واقتلعت معها السقف، لترسل اللوح كرمح مميت. صاح الديك بجنون: "انتبهي!!" وجذب الدجاجة، لكن اللوح ارتطم بالأرض فوقهم ومع القط، ليهتز العمود الخشبي ويبدأ سقوط الحيوانات بعضهم فوق بعض. القط، مذعورًا، انقضّ بمخالبه يغرزها في ساق بران ظانًا أنه خشب، فيصرخ الحصان محتملًا الألم، ويرفسه عاليًا… ليقع على رأس البقرة الأم المرتجفة. صرخت وهي تركل الخراف والماعز بلا وعي محاوِلة نزع مخالبه، بينما تجمعت صغار الحيوانات بطريقة فوضوية فوق رأس روغان الملقى تحت كومة تبن ثقيلة، صوته يضيع وسط عواء الريح. ثم… دوى تشقق مفزع. ارتجفت الجدران بصوت خرافي، ورفعت العيون المرتعشة رؤوسها إلى السقف. في لحظة مرعبة انكسر السقف دفعة واحدة، فانهارت الألواح، وتدحرجت الطاحونة الضخمة داخله، تتعلق بالحبال والواح السقف المكتسره، كوحش يُسقَط من السماء. تدفقت زوابع العاصفة للداخل، فغمروا في فوضى كاملة. لم يعد يُسمع إلا صراخ الرياح، لم يعد يُرى إلا أجساد ممزقة بين الأرض والسماء. الدجاج والأوز علقوا في الهواء، يتأرجحون بين السقف والأرض، يحاولون مواجهة الريح بأجنحة وأجساد لا تقارن بقوة الغضب المتجسد. قوة الجميع بدأت تنهار؛ الحصان على وشك السقوط، الثور يئن وهو عالق في الباب، البقية يتقاذفهم التيار أو أغلقوا أعينهم يستسلمون ببطء. الألواح تتساقط، والحبال تتمزق، والطاحونة تقترب شيئًا فشيئًا من رؤوسهم، حتى عمّ الإحساس الجارف: الموت هنا... بيننا… يلتهمنا. غير أن العاصفة، في كبرياء المنتصر، رأت أنها أوصلت رسالتها. بدأت الرياح تهدأ قليلًا… توقفت العواصف الصغيرة، تساقط الغبار كرماد محرقة انتهت. سقطت الصومعة على الأرض بارتطام قوي، ورقد المكان بعدما غادره الزلزال. هدوء خادع من جديد… لكن لم يبقَ إلا الخراب، أجساد منهكة، جروح وصراخ مكتوم، وعيون لا تزال عالقة في الظلام. غادرت العاصفة بلا كلمة… وكأنها وعد ضمني: سأعود... لم أنته بعد.
Previous
Next

Comments (0)

Login to leave a comment

No comments yet. Be the first to share your thoughts!